أكثروا من الباقيات الصالحاتالحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فما إن يهل هلال ذي الحجة، وإلا ويستعد الأئمة والوعاظ لتذكير الناس بفضل العشر الأول المباركات من ذي الحجة؛ إذ فيها أداء فريضة الحج، وفيها يوم عرفة، وفيها تعظيم الله وتكبيره، وفيها الهدي والأضحية.
ومع كثرة المواعظ وتعددها لاستثمار هذه الأيام الفاضلة، تجد كثيراً من الناس يغفلون أو يقصرون في شعيرة من شعائر الله هي في العمل يسير إلا أن فضلها عظيم، وأجرها جزيل، ولو أدرك أولئك الغافلون ما يفوتهم من الخير والنفع ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لفعلوا.
لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين في هذه العشر المباركات على الإكثار من ذكر الله تعالى بالتحميد والتهليل والتكبير؛ فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) [رواه أحمد].
لقد هجر كثيرٌ من الناس هذه السُّنة المتَّبعة، والشعيرة العظيمة، فلا تكاد تسمع أحداً في طريق أو سوق أو مسجد أو بيت يحرص أو يحث أهله على هذا الذكر العظيم.
وفي هذا المقال سأبيِّن شيئاً من فضائل هذا الذكر العظيم، كما ثبتت به نصوص الشرع الحنيف؛ علَّها تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية؛ (إنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَو أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق: 37].
1) إنها الباقيات الصالحات:
إن النبي صلى الله عليه وسلم حين أوصى المسلمين بالعمل الصالح في أيام العشر من ذي الحجة، أوصاهم بالتهليل والتكبير والتحميد، إذ هي من الباقيات الصالحات التي قال فيها رب العزة والجلال (وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف: 46]، وقال أيضاً: (وَالبَاقِياتُ الصَّالِحَاتٌ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا) [مريم: 76].
وقد جاء تفسير الباقيات الصالحات صريحاً من النبي صلى الله عليه وسلم بأنها هذه الكلمات التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا جُنَّتكم)، قلنا: يا رسول الله! من عدوٍّ حَضَر؟ قال: (لا ، بل جُنَّتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات، وهن الباقيات الصالحات) [رواه الحاكم والنسائي في عمل اليوم والليلة].
2) أحب الكلام إلى الله:ما تكلم العبد بكلام أحب إلى الله تعالى -بعد القرآن- من هذه الكلمات؛ عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحبُّ الكلام إلى الله أربع، لا يَضرُّك بأيِّهنَّ بدأتَ: سبحان الله ، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) [رواه مسلم].
ومن تيسير الشرع أنه لم يشترط ترتيباً معيناً للذكر بهن، فبأيهن بدأ الإنسان تحقق له الفضل والأجر.
3) خير من الدنيا وما فيها:إن هذه الكلمات خير وأحب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما فيها من الأموال والمتاع الذي هو زينة الحياة الدنيا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لأن أقول : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشمس) [رواه مسلم]؛ وهذا مصداق قول الله سبحانه: (المَالُ وَالبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالبَاقِياتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف: 46].
4) عمل قليل وأجور عظيمة:يحرص المسلم الصادق على ملئ صحائفه بالأعمال الصالحة، ليثقل موازينه عند الله تعالى؛ إلا أن عمر الإنسان يضيق عن إدراك كثير من الصالحات؛ فكان من لطف الله وكرمه على عباده أن جعل هذه الكلمات مباركات ؛ فهي على قلتها من حيث العدد، إلا أن لها من الأجر والفضل ما لو قضى الإنسان عمره ليفعله ما بلغ معشار ذلك، لا سيما عند تكبر سنه، ويرق عظمه، وتضعف عزيمته.
فعن أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها قالت: مرَّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت: إني قد كبرت وضعفت - أو كما قالت-، فمرني بعمل أعمله وأنا جالسة، قال: (سبحي الله مائة تسبيحة؛ فإنها تعدل مائة رقبة تعتقينها من ولد إسماعيل ، واحمدي الله مائة تحميدة، تعدل لك مائة فرس مسرجة ملجمة تحملين عليها في سبيل الله، وكبّري الله مائة تكبيرة؛ فإنها تعدل لك مائة بدنة مقلدة متقبّلة، وهلل مائة تهليلة - قال الراوي: أحسبه قال: تملأ ما بين السماء والأرض-، ولا يرفع يومئذ لأحد عمل إلا أن يأتي بمثل ما أتيت) [رواه أحمد].
5) مكفرات للذنوب:ولا يتوقف الأمر عند زيادة الحسنات، بل إن هذه الكلمات تكفر الذنوب وتمحو الخطيئات مهما بلغت وكثرت؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما على الأرض رجل يقول: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمد لله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلا كفرت عنه ذنوبه، ولو كانت أكثر من زبد البحر) [رواه أحمد والترمذي والحاكم].
وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بشجرة يابسة الورق، فضربها بعصاة، فتناثر الورق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة) [رواه الترمذي].
6) جُنَّة ووقاية من النار:ويتجلى علينا فضل الله تعالى أكثر وأكثر إذا علمنا أن هذا الذكر المبارك هو وقاية للعبد من النار، وستر له من عذاب الآخرة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خذوا جُنَّتكم)، قلنا: يا رسول الله! من عدو حضر؟ قال: (لا ، بل جنتكم من النار، قولوا: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ فإنهن يأتين يوم القيامة منجيات ومقدمات، وهن الباقيات الصالحات) [رواه الحاكم والنسائي في عمل اليوم والليلة].
7) أفضل المؤمنين من أكثر منهن وقد عُمّر في الإسلام:عن عبد الله بن شداد: أن نفراً من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا , قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يكفينيهم)؟ قال طلحة : أنا، قال : فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً فخرج فيه أحدهم فاستشهد, قال: ثم بعث آخر, فخرج فيهم آخر فاستشهد, قال: ثم مات الثالث على فراشه, قال طلحة: فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة, فرأيت الميت على فراشه أمامهم, ورأيت الذي استشهد أخيراً يليه, ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم، قال: فدخلني من ذلك. قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له, قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أنكرت من ذلك , ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يُعمَّر في الإسلام يَكثُر تكبيره وتسبيحه وتهليله وتحميده) [رواه أحمد والنسائي في الكبرى].
ثقيلات في الميزان:عن أبي سلمى رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بخ بخ، –وأشار بيده بخمس- ما أثقلهن في الميزان: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر، والولد الصالح يُتوفَّى للمرء المسلم فيحتسبه) [رواه الحاكم].
9) تذكر بصاحبها عند العرش:عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن مما تذكرون من جلال الله: التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد, ينعطفن حول العرش لهن دَوِيٌّ كدَويِّ النَّحل تُذكر بصاحبها, أما يحب أحدكم أن يكون له, أو لا يزال له من يذكر به) [رواه أحمد وابن ماجه والحاكم].
إن من تأمّل هذه النصوص النبوية العظيمة يدرك ما يفوت على نفسه من أجر الباقيات الصالحات؛ فلله درها من كلمات ما أعظمهن، وما أكثر خيرهن، وما أشد خسران من فرط فيهن ولم يحرص عليهن.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بقلم/د. أيمن محمد العمر
الباحث في إدارة الإفتاء